الخميس، سبتمبر 23، 2010

فَلَسَوْفَ أُرْضِعُكُ اْلجِرَاحَ مَعَ اللّبَنْ ..





كانت أحشاؤها تتمزق ، صراخها -الذي لم تحاول أبداً منعه من الانطلاق من حنجرة لم تألف هذا الشكل من الصراخ - كان يهز الارجاء ، دموعها كانت قد بللت الوسادة التي أسندت إليها رأسها ، أمّا الأطباء فكانوا حولها لكنها لم تكن تر أيّاً منهم ، يخرج صوتها ممزوجاً بالنحيب صارخاً : " نائـــــــــــــل ... نائـــــــــل " ، تستسلم للبكاء المر ، تحاول رفع رأسها قليلاً عن الوسادة مستندة على يديها الممسكتين بالسرير ، تصرخ "نائــــــــل " ولكن رأسها الذي أثقله الصراخ سرعان ما يهوي على الوسادة ، تحاول عدة مرات أن تنهض ولكنها تبوء بالفشل ...

كان صوت الأطباء الذين لا يبدو عليهم الارتباك - ربما لأن حالات مشابهة كثيرة مرّت عليهم - قد ذاب في دوامات صراخها المتواصل المنطلق من حنجرة آيلة للتمزق ..، ظهر صوت طبيب منهم :" خرج الرأس ،، لم يبق إلا القليل ".......
هدأ البركان الثائر وكفّت حممه عن التطاير  ، " إنه طفل أيتها السيدة ، مبارك إنه طفل " ، ولكن على عكس ما توقع الأطباء فقد ازداد بكاؤها ولكن هذه المرة بهدوء ، تبكي وتنظر إلى قطعة السماء التي ظهرت من نافذة الغرفة وتمتمت بصوت مُنهك " نائــ ـ ـ ـل " .
لم تكن تعلم وقتها اتبكي نفسها التي فقدت "نائلها " قبل ساعات ،أم تبكي طفلها الذي أتى يوم أن رحل أبيه .

نائل كان قد خرج إلى رباطه في تلك الليلة من الليالي التي من المتوقع أن تلد فيها زوجته ، كان متشوقاً ليرى طفله القادم رغم أنه لم يكن الأول  ، خرج نائل مساء ذاك اليوم لكنه لم يعد فجر اليوم التالي كعادته ، استيقظ أهل زوجها مع طلوع الفجر على صراخ مخاضها ، توجهوا مسرعين إلى السيارة ،كانت حينها آملة أن يلتحق بها نائل ليطمئن عليها وعلى طفله ، ولكن الأقدار لا تكافىء الانسان بما يأمل إلّا أحياناً ، فقُدّر لرفيق زوجها أن يصل قبل انطلاق السيارة بثواني ، الرفيق الذي كان يحمل خبر ارتقاء نائل شهيداً .

نهضت هي بجسدها المُنهك عن سريرها ، ساعدوها بتبديل ملابسها ثم ناولوها طفلها الذي ألبسوه الأبيض في يوم تعتقد هي وجوب ارتداء الأسود فيه ، نظرت إلى عينيه ، كانتا واسعتين كعيني أبيه ، رأته فيهما فضمت صغيرها الذي وُلد يتيماً لصدرها ومشت خطوات قلية من السرير حتى باب الغرفة كطفل تعلم المشي حديثاً ، أسندت نفسها للباب ثم أكملت طريقها في ممر المشفى الطويل ، أهلها واهل شهيدها كانوا حولها ، ولكنها لم تسمح لأي منهم بمساعدتها بحمل طفلها ، ربما كان ذلك إعلانا منها منذ تلك اللحظة أنها ترفض الشفقة وانها قادرة على تربية أطفالها الأربعة  بعد غياب أبيهم ، هم  في النهاية عجزوا عن إخفاء دموعهم التي حاولوا كثيرا حبسها ، لا يدرون هل كانت دموعهم على ذلك المشهد المأساوي ، أم على ابنهم الذي قضى نحبه في ساعات الصباح الأولى .!!

كان جسد الرجل طويل القامة ، عريض المنكبين ، المضرج بدمائه قد وصل قبل وصولها وطفلها بوقت قليل ، ما إن وصلت السيارة إلى البيت الذي تجمهر أمامه الجيران حتى أفسحوا لها المجال لتمر ، كانت تمشي بينهم بخطاها الثقيلة وعيونهم تصب عليها الشفقة  ،، وجدته متمدداً في صالة البيت حيث كان يلاعب أطفاله دائماً ، افسح الرجال والنساء الذين تواجدوا من أقاربه لها المكان ، ارتمت على ركبتيها بجانبه  ، مدت يدها إلى عينيه المغلقتين لتفتحهما ، فهي تحبهما واسعتين براقتين كما اعتادتهما  ، مدّت له طفلها الذي كان بين يديها وأدنته من وجهه  :"هادا ابننا يا نائل .. شايف شو حلو ، بيشبهك يا  نائل "، تغرق في دوامة بكاء  مرير  المذاق ثم تعود :" هادا يمّا أبوك ... ملّي أنفك من عطر دمه مش راح تشمه تاني ، هادا يمّا أبوك اشبع من عيونه ، مش راح تشوفها بعد اليوم يمّا ولا انا بشوفها يا حبيبي بعد " تتناول طرف شالها لتمسح الدموع التي أغرقت وجهها وتكمل :"يمّا راح تحمل اسم أبوك ، اسمك  نائل سميتك ، بكرة لما تسأل مين حرمني منه راح أقولك يمّا 
 "
وضعت طفلها على صدر أبيه ، لتصبغ أول ملابس لبسها بدماء أبيه ، لم تتمالك نفسها ، ضمته أمام الجميع وهي تجهش :" هادي آخر ضمة يا نائل ... هادي آخر ضمة يا نائل " .





تعليق .

* أنا لم أقم بتأليف هذا الأحداث بل قمت فقط بالتعبير عن صورة رأيتها ، فنائل لم يكن إلا جارنا  ..
* نائل الطفل من ألف ألف نائل في بقاع الأرض قاطبة ، ليس في فلسطين فحسب .
* في مؤتمر السيد ايهاب الغصين اليوم عن العملاء ، تحدث أن من بينهم العميل الذي وشى بالمجموعة التي كان نائل فردا من أفرادها  .


لم أجد للموقف أنسب من قول الشاعر المصري الشاب الشهيد " هاشم الرفاعي " ، وهي قصيدة على لسان أرملة الشهيد تهدهد طفلها

وهذا جزء منها

نم يا صغيري إن هذا المهد يحرسه الرجـــاء
من مقلة سهرت لآلام تثور مع المســــاء
فأصوغها لحناً مقاطعه تَأَجَّج في الدمـــاء
أشدو بأغنيتي الحزينة ثم يغلبني البكـــاء
وأمد كفي للسماء لأستحث خطى السمـــاء
نم لا تشاركنــي المـــرارة والمحـــــن
فلسوف أرضعـك الجــــراح مع اللبــــن
حتى أنال على يديك منىً وهبت لها الحيــــاة
يا من رأى الدنيا ولكن لن يرى فيها أبـــاه
ستمر أعوام طوال في الأنين وفي العـذاب
وأراك يا ولدي قوي الخطو موفـور الشبـاب
تأوي إلى أم محطمـة مُغَضـَّنَةِ الإهــاب
وهنا تسألني كثيراً عن أبيـك وكيف غــاب
هذا ســؤال يا صغيري قــد أعد له الجــواب
فلئــن حييت فسـوف أســرده عليــك
أو مت فانظـر من يُسـِرُّ به إليـــك
فإذا عرفت جريمـة الجاني وما اقترفت يـــداه
فانثر على قبري وقبر أبيك شيئـاً من دمـــاه
غدك الذي كنا نؤَمل أن يصــــاغ من الـــورود
نسجوه من نار ومن ظلم تدجــج بالحديـــد
فلكل مولود مكـــان بين أســــــراب العبيــــد
المسلّمينَ ظهورهم للسوط في أيدي الجـنود
والزاكمين أنوفهم بالترب من طول السجــــــود
فلقــد ولــدت لكي تــــرى إذلال أمـــــة
غفلت فعاشــت في دياجيــــر الملمـــــة
مات الأبيُّ بها ولم نسمع بصوت قد بكــــاه
وسعوا إلى الشاكي الحزين فألجموا بالرعب فـــاه



وهنا يمكنكم تحميل أنشودة" نم يا حبيبي" لميس شلش ، في نفس سياق الموضوع ..


هناك 7 تعليقات:

أم أنس يقول...

آه ياسجود كلامك كتير قاسي.
حسبنا الله ونعم الوكيل على كل ظالم.

تويتي فلسطين يقول...

السلام عليكم

والله كل ما اشوف قصه حزينه في بلادنا

ما بقدر اشوفها

الا تنزل دموعي عنجد الوضع مؤلم

وانا حاسه بشعروك لاني من نفس بلادك

فلسطين

الله يا رب ينصرنا ويبعد كل ظالم

يا رب تحياتي

حياتى نغم يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

الله مع نائل وكل نائل ..

يرعاهم ويرحمهم ويتقبلهم آمين .

وجزاكِ الله خيراً على السرد الحقيقى والأنشودة الرائعة .

رعاكم الله وشد أزركم آمين .

طير الغربة يقول...

يحكون في بلادنا
يحكون في شجن
عن صاحبي الذي مضى
و عاد في كفن ..

كان اسمه.. .
لا تذكروا اسمه!
خلوه في قلوبنا...
لا تدعوا الكلمة
تضيع في الهواء، كالرماد...

خلوه جرحا راعفا... لا يعرف الضماد
طريقه إليه. ..
أخاف يا أحبتي... أخاف يا أيتام ...
أخاف أن ننساه بين زحمة الأسماء
أخاف أن يذوب في زوابع الشتاء!
أخاف أن تنام في قلوبنا
جراحنا ...
أخاف أن تنام !!

ماذا أقول لكي..
حروفك متألقة ..ومضرجة بالدماء..
تحياتي

رجل من غمار الموالى يقول...

الله يرحمهم
ويغفر لنا تخاذلنا

مجرد مدونة يقول...

الله المستعان

طير الغربة يقول...

عودة محمودة
عودة وطن..