"وين راحو وما رجعوا .. وين راحوا ...؟"
بقيت هذه العبارة تترد في أذنيّ ، ليلَ نهار ، منذ ثلاثة أيّام ، ولهذه الكلمات قصة ..
قبل ثلاثة أيام ...
كنا نمشي - أنا وأختي ووالدي ووالدتي - في أحد شوارع غزة الساعة العاشرة والنصف مساءً ، وذلك بعد عودتنا من حفل تكريم طلاب الثانوية العامة ، اخترنا يومها أن نمشي بدلاً من أن نستقل سيارة نعود بها ، كان الجو جميلاً ونسمات الهواء منعشة في تلك الليلة ، وجو الفرح الذي أضفاه عرس النجاح على الشارع الفلسطيني ، الأمر الذي شجعنا على أن نختار العودة مشياً على الأقدام ..
كان والديّ يسيران في المقدمة وأختي تتبعهما ، وكنت أسير ببطء مستغلة سير القمر معي ، وفيما كنت والقمر نتبادل أطراف الحديث ، إذ بصوت عجوز يبدو عليه التعب ، كانت تلبس ثوباً أبيضاً وغطاء رأس أبيض أيضاً ، وقفت أمام باب بيتها وأخذت تردد تلك الكلمات " وين راحوا وما رجعوا .. تركوني لمين .. وين راحوا .." ، انتابني بعض الخوف وخصوصاً بعد أن لاحظت أني تأخرت عن والديّ ، وأنا في الشوارع التي لا أعرف فيها شيئاً ، ناديت أختي :" أختي ..أختي ..اسمعي ، تعالي شوية " ، رجعتْ بعض الخطوات لتكون بمحاذاتي ، أخبرتها بأمر تلك العجوز ، فأخذت واياها نمشي خطوة للأمام وننظر للخلف على تلك المرأة ..
كان علينا ان نصل لوالديّ قبل أن يلاحظوا أننا تأخرنا عنهما ، فمضينا ..
مضينا وصوت تلك العجوز يتردد في أذنيّ ، وأكوام التساؤلات تكوّمت في رأسي ، ما تراه شأنها ؟ من الذين مضوا وتركوها ..؟
في هذه المدينة يمضي الناس بطرف العين ، تفقدهم في الوقت الذي لا تتوقعه وتظل تعيش على طيفهم عندما يزورك ..
ربما كان أبناؤها من المقاتلين الذين ارتدوا اللثام وبنادقهم ، ومضوا يمنعون هذه المدينة من الغياب ، فغابوا هم لتبقى هي ، ولم يبقوا للعجوز إلا قمصان ازدانت بدمائهم ، تحضنهم صباحَ مساء ..، أو قد يكون الأعداء أخذوهم من حضنها أثناء التوغل ، كرهائن مقابل الجندي الأشعث ، كأن ما عندهم لا يكفيهم ولا يسد رمقهم ، فأصبحوا حلم تحلم به فحسب ..
أم عساهم سئموا من سجن المدينة ، فهمّوا أن يتركوها ، ويلجؤوا إلى مكان يعطيهم بعض الأمن والطمأنينة ، ربّما كان تفكيرهم في التخلص من هذه الهموم أنساهم أمّاً ستقف يوماً على باب البيت وتنادي عليهم ، فذهبوا وتركوا الحسرة تأكل قلبها ...
ثلاث ليالٍ وصوتها يتردد كمن يطلب النجدة " وين راحوا .. وما رجعوا يمّا وين ..؟ " .
عندما اذهب إلى سريري ، أنظر من شرفة الغرفة إلى القمر الذي يطيل النظر إلي ، فأقول له : أتذكر صوت تلك العجوز ، أيتردد في أذنيك كما يحدث معي ... ماذا عساه شأنها ...
أبقى بلا أجوبة منه ، وأخاف نهاية الشهر فيختفي ، وأظل أسمع صوتها وحدي انا ، دونه .! ، فأكمل نسج افتراضاتي ..
ربما تزوج أولادها ، أخذتهم زوجاتهم بعيداً عن امهم ، وتركوها في بيت يخيم عليه الصمت الموحي بالموت في هذه الشوارع التي تضج بالحياة ، فوقفت على الباب بين الصمت والصخب ، تخاف أن تعود للأول فيقضي عليها ، او ان تذهب للآخر فيدهشها أن تراهم يتمتعون بلذة الحياة منذ سنين ، ففضلّت ان تبقى واقفة بالباب بين العالمين المتناقضين ..
قد يكون تشاجر أحدهما مع آخر ، فشتمه ، ثم ضربه ، تصاعدت أصواتهم ، فأخرج السلاح ووضع طلقة هادئة في رأسه ، فنالت هي فجيعة أن الأول ساقوه إلى القبر ، والآخر سيق إلى السجن ..
أنظر إلى الساعة فأجدها جاوزت الواحدة صباحاً ، أتوسل لها ان تتركني لأنام ولو قليلاً ، أفتح بعض قصائد لتميم في أذنيّ ، لعلّ صوته يطرد صوتها ، فأنام ..
يرن المنبه بعد قليل ، أشك هل أنا بدّلت نغمة التنبيه هي لم تكن " وين راحوا وتركوني .." ولكني أجدها باتت كذلك ، اتناول هاتفي من المكتب ، لأوقف المنبه لكنه لم يقف ، أنهض لأتوضأ وأصلي ، فأجد صوتها في كل ركعة ، في كل سجدة ، بل في كل تكبيرة ..
يبدو أنني لن أستطيع أن اهرب من ذاك الصوت إلا عندما تستنفذ تلك العجوز كل خيوطي التي أنسج بها افتراضاتي لندائها المتقطع بالنحيب ...