ستذهب بقدميك إلى ذلك المكان دون أن يجبرك أحد ، حيثُ يعيشون – هم – أو يموتون دون أن يدري مقدارَ الدمع الذي ذرفته قلوبهم أحد ..
ستقف أمام ذلك البيت
، ستَتَسَمّر قدماك عند المدخل ، وتلبث وقتاً تُغري نفسك الفضوليّة أن تعود من حيث
أتت ، ولكنها سترفض .
وستقرأ بالخط العريض أعلى باب المدخل "مبرّة
الرّحمة لرعاية الأطفال " ، وستشعر وقتها أن لاسم المكان بقيّة ، رفض الكاتب
أن يكمله لأنه كان "إنسانياً"..
ستكون جريئا ولكن
فضوليّاً أكثر وأنت تصعد الدرج ، هناك تستقبلك المُربيّة ، ستقول لك كلاماً قليلاً
عن تاريخ المكان ، قبل أن تصحبك إلى شققهم ، حيث يعيشون أو يموتون ... كلاهما
سيّان ..
ستستقبلك ابتساماتهم
التي لن يؤذيك شيءٌ بقدرها وإذا نظرت في عينيهم فسينسج خيالك لكلِّ رضيعٍ
منهم مستقبلاً لن يقل جحيماً عن الآخر ، خيالُك لن يكون سيئاً أو متشائماً عندما
يفعل ذلك ، لأنّ شهادة ميلاد تحمل "الاسم الأول " فقط ،تجبره أن يفكر
كذلك ..
وسترى هناك –في الشقة
الأولى – أطفالاً ،أكبرهم يحبو على الأرض ، وسيشد انتباهك طفلاً لم يتجاوز
الثمانية أشهر ، ستُبحر في عينيه اللتين بلا مرفأ ، الزرقاوتين كنهر النيل ، الواسعتين
كالسماء ، البائستين كتمثال حريةٍ على باب قصر الملك ، وستشفق على جماله ، وتود أن
لو تحمله بين ذراعيك لتلاعبه وتناغيه ، لكن يداك ستخوناك ،لأن الخدر أصابهم ،
فتحبس دمعةً أطلّت من عينك اليمنى ، ولن تسمح لها بالجريان على خدّك ، لأنك تخاف
أن تجرح دمعتك مشاعر الرضيع ذي الأشهر الثمانية ، وقتها ستلعن – في نفسك – "أمَّه"
ألف مرة ، ولن تتفوه شفتاك باللعنة ، لأنك تخشى أن تسألك عينا الطفل : وماذا تعني
كلمة "أم" التي لفظتها ؟!
وتجيب في نفسك : الأم
، مخلوق خلقه الرحمن أبيضاً ناصعاً ، ولكن الشيطان أصاب بعضه فأصبح أسوداً..
وستجد في أسِرّتِهم
الصغيرة المُزيّنة بكل شيء ،دمىً قد تبدو الآن في أعينهم جميلة ،هادئة، حنونة،
ولكنهم حين يكبرون قليلاً سيلعنونها ، لأنها كانت طوال الوقت تَتَسَمّع عن كثب
لأنّات قلوبهم ، وتراهم وهم يغرسون وجوههم في وسائدهم ليسقوها دمعهم ، ولا يختلف
اثنان على أن الدمع قد يكون بلّل بعض
الدمى ذات يوم.
لكنهم برغم ذلك لن
يمزقوها أو يحطموها ، لأنها كانت ولا تزال خيراً من "صاحبَيّ الخطيئة "
، فهي لم تتركهم أبداً كما فعل ذاك المخلوقان البائسان ...
في الشقة الأخرى ، سترى أطفالاً أصغرهم تعلّم المشي
حديثاً ، ولكنك لن تستطيع أن تلبث هناك إلا دقائق ، لأنّ طفلةً صاحبةِ عامين اثنين
أو ثلاثة ، ستترك ألعابها ، وتمشي نحوك ، كأنها كانت تنتظرك ، وتمسك بملابسك
وتناديك : بابا .. بابا .
ستنتزع نفسك من كل
الأمكنة ..
وتركض للخارج ،
لترممَّ حطام نفسك .
* الجمعية التي تأسست عام 1993 تهتم بالأطفال مجهولي النسب