الخميس، ديسمبر 09، 2010

مشهد ...



"وسيكتب التارخ بخزي أن عصاً بأرض العراق عجزت أن تكون عكازاً لصبي ، وستكتب العصيُ بمرارة أنه كان يلزمها ساق واحدة على الأقل لتصير "عكّازاً" ، عبارة قرأتها في مذكرات رجل عراقي ، كان يتحدث عن "نصف صبي " ، أفقدته "القنابل الذكية " رجليه ، وبقي يرتكز بنصفه العلوي على جده الذي لم يستطع أن يحتضنه من أعين المارة ، ليس إلا لأنه لا يملك إلا ذراعاً واحدة ...


أستحضر شكله وهو يجلس على ما تبقى من عتبة البيت ، ولكنه ليس مضطراً إلى أن بتجنب اتساخ ملابسه لقصر العتبة ، واليوم أيضاً لن يعبث باصبع قدمه اليسرى في التراب أسفل قدميه ويرسم زهرة أثناء استماعه لحديث جده الطويل عن عدد نخل العراق  وزرقة دجلة والفرات ، وعن مكتبة دار الحكمة ....

أستحضر الصورة وليس من الصعب عليّ استحضارها رغم بعد المسافات ، فنحن في الجرح أقرب إلى بعضنا كقرب الوريد ، كثيرون هم الذين قدّموا أطرافهم كي يصنعوا للوطن أطرافا قوية فيحميهم ويحمونه ، وبعض آخر ما زال يحتفظ بأعضائه ملتصقة بجسده لكنها لا تعمل ....


مشهد آخر في نفس السياق .

أراه متكئاً على عكّازيه ، يحمل جسده ويلقيه على كاهليها ، ثم سرعان ما يعاود استرداده ، لأنه يوما لم يُرد أن يُحمّل الآخرين تعبه ، وان كانت العكازات التي صُمّمت ليرتكز عليها .....، أمرّ عنه فأشعر بقشعريرة تغزو جسدي ، لست مُشفِقة بل مُستشعِرة لعظمته ، أرقب خطواته من نافذة السيارة وابتسامة تعلو ثغره ، ابتسامة لخّصت ما ألف عنه المؤلفون في الانتصار على اليأس ،
ابتسامة تشعرني بالانتصار الذي حققه لنا ، دفع مقابله اعاقته ليوزع فيما بعد ما اشتراه " الانتصار " على الجميع ـ فتقطيبة جبينه تروي عن بطولته وهو صامت كأنه المقصود في قول الشاعر  :"صامت لو تكلّما للفظ النار والدّما .... قل لمن عاف صمته ، خلق الحزم أبكما ".
أتمنى لحظتها أن أقف أمامه وأقول له : " إنك رجل عظيم " ،، و(رجلٌ) في قاموسي ليست وصفاً لكل من حمل شاربين على شفتيه ، بل هي وصفٌ لقلّة ، أمثال صاحب العكازين تنقذها من الانقراض .
وأشعر أن الأرض من تحت أقدامه تعلم أن أربعة أقدام تطؤها _ قدميه والعكازين_  ، فتقوم بقذف العثرات في طريقه ، ليس لأنها تكرهه ، بل لأنها تريد أن تجعله أقوى وتختبر قوته على اجتياز الأصعب .
مسكينة الأرض ...! يبدو على ملامحها الشوق لركبتيه تنثنيان عليها ، ولجبينه يلامس أديمها وقت السجود ، هو لن يسجد إلا جالساً على سريره ، وكلّما أحنى رأسه في الصلاة تحاول الأرض أن تنطلق من قيودها لتقبّل جبيناً اشتاقت له ، وشوقه إليها  -لو تعلم - أكثر ...





أعتذر لكل صاحب ألم عجزتُ أن أشاركه ألمه .

هناك 6 تعليقات:

أم أنس يقول...

ماشاء الله أسلوب رائع جداً جداً، أحييك على هذا الرقي في التعبير وحسن استخدام الألفاظ والتعابير بجانب سعة خيالك وإجادتك بناء الصورة وحسن استحضارها.
بوركتِ أختي وبوركت جهودك، وكان الله بعون هؤلاء الرجال مهما صغروا سناً.

إيمان هلال يقول...

روما هل قاسيتِ حريقاً مثل حريقي يا طروادة قولي هل حوصرت فجف الماء ومات الزهر كما بحصاري كم يخجلني الدمع ولكن ما سعة الأحداق لتحمل من أقداري

طير الغربة يقول...

عكازك الذي تتكئ عليه‏
يوجع الإسفلت‏
فـ«الآن في الساعة الثالثة من هذا القرن‏
لم يعد ثمة مايفصل جثث الموتى‏
عن أحذية المارة» !!

ياعتبتي السمراء المشوهة،
لقد ماتوا جميعا أهلي وأحبابي
ماتوا على مداخل القرى
وأصابعهم مفروشة
كالشوك في الريح
لكني سأعود ذات ليلة
ومن غلاصيمي
يفور دم النرجس والياسمين..

سأعود لك.. لتلتقط الوردة الحمراء..!

israaaboelghit يقول...

سجود اشتقت اليكي ونفسي اطمن عليكي ... :(


انا اسراء ابو الغيط
من الفيوم

فارس السنة يقول...

بسم الله ما شاء الله اسلوب رائع
ربنا يزيدك

فارس السنة يقول...

بسم الله ما شاء الله اسلوب رائع
ربنا يزيدك