الأحد، يوليو 25، 2010

غابوا ، فعذبوها وعذبوني ..


"وين راحو وما رجعوا .. وين راحوا  ...؟"

بقيت هذه العبارة تترد في أذنيّ ، ليلَ نهار ، منذ ثلاثة أيّام ، ولهذه الكلمات قصة ..





قبل ثلاثة أيام ...

كنا نمشي - أنا وأختي ووالدي ووالدتي - في أحد شوارع غزة الساعة العاشرة والنصف مساءً ، وذلك بعد عودتنا من حفل تكريم طلاب الثانوية العامة ، اخترنا يومها أن نمشي بدلاً من أن نستقل سيارة نعود بها ، كان الجو جميلاً ونسمات الهواء منعشة في تلك الليلة ، وجو الفرح الذي أضفاه عرس النجاح على الشارع الفلسطيني ، الأمر الذي شجعنا على أن نختار العودة مشياً على الأقدام ..

كان والديّ يسيران في المقدمة وأختي تتبعهما ، وكنت أسير ببطء مستغلة سير القمر معي ، وفيما كنت والقمر نتبادل أطراف الحديث ، إذ بصوت عجوز يبدو عليه التعب ، كانت تلبس ثوباً أبيضاً وغطاء رأس أبيض أيضاً ، وقفت أمام باب بيتها وأخذت تردد تلك الكلمات " وين راحوا وما رجعوا .. تركوني لمين .. وين راحوا .." ، انتابني بعض الخوف وخصوصاً بعد أن لاحظت أني تأخرت عن والديّ ، وأنا في الشوارع التي لا أعرف فيها شيئاً ، ناديت أختي  :" أختي ..أختي ..اسمعي ، تعالي شوية " ، رجعتْ بعض الخطوات لتكون بمحاذاتي ، أخبرتها بأمر تلك العجوز ، فأخذت واياها نمشي خطوة للأمام وننظر للخلف على تلك المرأة ..
كان علينا ان نصل لوالديّ  قبل أن يلاحظوا أننا تأخرنا عنهما ، فمضينا ..

مضينا وصوت تلك العجوز يتردد في أذنيّ ، وأكوام التساؤلات تكوّمت في رأسي  ، ما تراه شأنها ؟ من الذين مضوا وتركوها ..؟
في هذه المدينة يمضي الناس بطرف العين ، تفقدهم في الوقت الذي لا تتوقعه وتظل تعيش على طيفهم عندما يزورك ..

ربما كان أبناؤها من المقاتلين الذين ارتدوا اللثام وبنادقهم ، ومضوا يمنعون هذه المدينة من الغياب ، فغابوا هم لتبقى هي  ، ولم يبقوا للعجوز إلا قمصان ازدانت بدمائهم  ، تحضنهم صباحَ مساء  ..، أو قد يكون الأعداء أخذوهم من حضنها أثناء التوغل ، كرهائن مقابل الجندي الأشعث ، كأن ما عندهم لا يكفيهم ولا يسد رمقهم  ، فأصبحوا حلم تحلم به فحسب ..

أم عساهم سئموا من سجن المدينة ، فهمّوا أن يتركوها ، ويلجؤوا إلى مكان يعطيهم بعض الأمن والطمأنينة ، ربّما كان تفكيرهم في التخلص من هذه الهموم أنساهم أمّاً ستقف يوماً على باب البيت وتنادي عليهم  ، فذهبوا وتركوا الحسرة تأكل قلبها ...

ثلاث ليالٍ  وصوتها يتردد كمن يطلب النجدة " وين راحوا ..  وما رجعوا يمّا وين ..؟ " .
عندما اذهب إلى سريري ، أنظر من شرفة الغرفة إلى القمر الذي يطيل النظر إلي ، فأقول له : أتذكر صوت تلك العجوز ، أيتردد في أذنيك كما يحدث معي ... ماذا عساه شأنها ...
أبقى بلا أجوبة منه ، وأخاف نهاية الشهر فيختفي ، وأظل أسمع صوتها وحدي انا ، دونه .! ، فأكمل نسج افتراضاتي ..

ربما تزوج أولادها ، أخذتهم زوجاتهم بعيداً عن امهم ، وتركوها في بيت يخيم عليه الصمت الموحي بالموت في هذه الشوارع التي تضج  بالحياة ، فوقفت على الباب بين الصمت والصخب ، تخاف أن تعود للأول  فيقضي عليها ، او ان تذهب للآخر فيدهشها أن تراهم يتمتعون بلذة الحياة منذ سنين ، ففضلّت ان تبقى واقفة بالباب بين العالمين المتناقضين ..

قد يكون تشاجر أحدهما مع آخر ، فشتمه ، ثم ضربه  ، تصاعدت أصواتهم ، فأخرج السلاح ووضع طلقة هادئة في رأسه ، فنالت هي فجيعة أن الأول ساقوه  إلى القبر ، والآخر سيق إلى السجن ..

أنظر إلى الساعة فأجدها جاوزت الواحدة صباحاً ، أتوسل لها ان تتركني لأنام ولو قليلاً ، أفتح بعض قصائد لتميم في أذنيّ ، لعلّ صوته يطرد صوتها ، فأنام ..
يرن المنبه بعد قليل ، أشك هل أنا بدّلت نغمة التنبيه هي لم تكن " وين راحوا وتركوني .." ولكني أجدها باتت كذلك ، اتناول هاتفي من  المكتب ، لأوقف المنبه لكنه لم يقف ، أنهض لأتوضأ وأصلي ، فأجد صوتها في كل ركعة ، في كل سجدة ، بل في كل تكبيرة ..

يبدو أنني لن أستطيع أن اهرب من ذاك الصوت إلا عندما تستنفذ تلك العجوز كل خيوطي التي أنسج بها افتراضاتي لندائها المتقطع بالنحيب ...



هناك 9 تعليقات:

المجاهد الصغير يقول...

السلام عليكم
اسئل نفسى لماذ تقول وتنادى؟؟؟
توقعت فى اخر الحديث ان بكثره فضولك تطرقى الباب عليها وتسئليها
ولكن جال فى خاطر انهم ضحو بساعدتهم وراحتهم من اجلها لتحيا حياه كريمه
لا ادرى؟؟؟
رمضان كريم
وفقكم الله

hend anwar يقول...

العجوز هذه ضعيفة
ولكنها عند ربا اقوى واكثر ايميانا
ربنا معاها

وفعلا حاجة مؤلمة جداا

سجود يقول...

المجاهد الصغير ..
لم أستطع ان أسألها ، فأمي وأبي كانوا يسبقانني بكثير ، وانا لا اعرف شيئا في شوارع المدينة ، وأيضا كنت خائفة أن أذهب وأسألها ، الأمر مخيف يا سيدتي ، ولا سيما ان الوقت ليلا ..

كل رمضان وانتي بخير

..............................

شمس الحرية
بالتأكيد يبقى الله عو العالم بأمرها وهو القادر على مساعدتها

طير الغربة يقول...

سلام الله عليكم..
كل عام وانتم بخير جميعاً أهلي وأحبتي في غزتي الحرة..
لو كنت مكانك ما ترددت لحظة في قرار ان ارجع وأبحث عن هذه العجوز وأن أسأل عن حالها ممن يسكن بالقرب منها..
اذا ما زلتي تذكرين المكان الذي كانت فيه نصيحتي أن تذهبي ولا تترددي ... ربما كانت بحاجة لمساعدتك.. لو كنت هناك ما ترددت..
لن تخسري شيئاً..
تحياتي..

سجود يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
وأنتم بخير جميعاا

للأسف انا لا أعرف الشارع ولا أعرف البيت ، ولا يمكنني أن اعود ..

أم أنس يقول...

ربما هي كمات سمعتيها وظلت تتردد في أذنيك يومين أو أسبوع إن طال مداها،،ولكن ما بالك بمن يعيش الحدث وما الذي دفع العجوز ان تخرج وتصيح في الشارع وتنادي أمام الجموع سوى حرقة قلبها وعدم سيطرتها على نفسها...
لنتذكر دوماً هؤلاء الناس الذين فقدوا أحبتهم في أي شكل كان ولندعو لهم وأقول لك إن استطاعت هذه العجوز ان تفضي وتعبر عما في نفسها فهناك المئات بل الآلاف لا زالوا صامتين كي لا يسببوا الإزعاج لمن حولهم وهو يتجرعون الآهات وعذابات الفراق في كل لحظة من لحظات حياتهم.
لا تنسوهم من الدعاء..
وأقول لك يا أختي أنتِ مبدعة وذات إحساس مرهف ربما مر الكثيرون كمن كانوا معك وغيرهم ولم تشدهم نداءات تلك العجوز،فإن لم يلفت انتباههم الصراخ فكيف سيلتفتون للصمت؟!

سجود يقول...

أم أنس

صحيح أختي وكنت قد ذكرت في تدوينتي "في هذه المدينة يختفي الناس بلمح البصر في الوقت الذي لا تتوقعه "
ما بيدي سوى أن أدعو الله للجميع بأن يلهمهم الصبر ... لو أملك غير هذا لفعلت..

وأرجو أن أكون عند حسن ظنك ولو أن ما قلتيه عني كثير عليّ..

تحيااتي

"النجم القادم" يقول...

انا سعيد كتير انك موجوده وبشوف تدويناتك دومتي بخير وربنا يبارك فيكم يا اهلي يا اهل غزة اتمنى انكم تطمنونى عليكم بالله عليكم تطمنونى عليكم جميعا

سجود يقول...

اهلااااا
وأنا أسعد بمتابعتك لي

احنا بخير كتير الحمد لله

الله يبارك فيك ويخليك
وكل عام وانت بالف خير يا نجم