الجمعة، يونيو 11، 2010

إِعْصَارٌ بَيْنَ شَفَتَيّ الصّمْت.


كان يشبك يده الصغيرة بيدها ، تداخلت الأصابع حتى كادت تلتحم ، كل منهما يبدو كإنسان ضائع، حملقت عيونه العسلية في البحر الممتد زراقه أمامه ، كان يجول بنظره  في الأزرق الواسع، ثم تركز عيونه في نقطة التقاء السماء بالبحر ، بينما كانت هي تراقب طائر النورس مكسور الجناح ، فيما كان يحط بجناحية على الشاطىء ...كانا طفلين بريئين .
الصمت سيد الموقف ، ولا صوت سوى أمواج البحر المضطربة تضرب بالصخر ، و نعيق غربان سود.
كسر أخوها _الذي يصغرها سنّاُ_حاجز الصمت ..

_ أختي هل تعرفين متى سنموت ؟

* لا أعلم .. ربما قريباً
_ نعم انا متأكد أننا سنموت قريباً ، فكل الأطفال هنا يموتون وهم صغار ، ونحن  عشنا من العمر ما يكفي ،، كانت أمي تقول أنني في السابعة من عمري ...

* أتعلم.!...إنك محق ، أتذكر أننا احتفلنا آخر مرة بعيد ميلادي التاسع وابنة خالتي قُتلت وهي في السابعة من عمرها ..
_ ألم أقل لكِ ، إن الجميع ينزفون الدماء ،أراهم هكذا دائماً ، كثيرون  كانوا أصغر مني أو بعمري ...

* يا إلهي ...كان لدي سؤال يحيرني دائماً ، لم يحالفني الحظ لأسأله قبل أن يرحل بابا .... هل تعتقد يا أخي بأن الأطفال في جميع العالم يموتون من المرض ومن القصف ...كما نحن؟؟

- أختي ... قال أبي أن الذين يموتون يذهبون إلى مكان فوق السماء اسمه "الجنة" ، وقال إن في الجنة كل شيء ، حتى الشوكولاتة .
.
* في الجنة لا يوجد دماء ، ولا أصوات مرعبة ، كانت تقول أمي هذا دائماً ، قالت أن الجنة فيها عرق زيتون أخضر وسلام..

صمت يسود ، وعلامات استفهام تعتلي وجهي الطفلين ...

_ انظري إلى هذا البحر كم هو كبير ، المياه لا تُعد ، أتعلمين ممّا تكوّن هذا كلّه ...؟

* أذكر إن معلمتي قالت أن مياه الأمطار هي التي كونته ، وتمنعه من النفاذ .

_ لا .. لا ، معلمتك مخطئة ، الأمطار ليست كثيرة لتملأ هذا البحر ، إن هذا البحر تكون من دموع أمهات الأطفال وأبناء القتلى والشهداء ، فهي كافية لتملأ هذا المكان الكبير، ألا تلاحظين أن طعمها مالح ....!

* أتذكر أن المعلمة كانت تقول ان دمع  العين مالح .....ربما انت محق !

_ أختي ....هل تكون أمي في الجنة الآن ، أم أنها بعد في ثلاجة الموتى بجانب أبي.؟

* بالتأكيد هم ذهبوا للجنة ، لأن ثلاجة الموتى لا تتسع  للكثير ممن يُقتلون ...ونحن أيضا عندما نُقتل لن نبقى كثيراً في  ثلاجة المستشفى ، لأننا صغار ، سنذهب فوراً للجنة ..

_ لكن يا أختي الجنة فوق السماء ونحن لا نمتلك طائرة ، كيف نصعد بسرعة ...!

* لا ... لا يا حبيبي ،أنسيت أن أبي قال أن الله يأخذنا لها بدون طائرة ...

_ نعم..نعم ،، تذكرت.

* أتعلم يا أخي ، لقد اشتقت لأمي كثيرا ولأبي أيضاً ، لو أستطيع أن أتصل بهم ، فعلى ما يبدو أنهم سيبقون كثيراً في الجنة ...لو أمتلك هاتفاً لقلت لهم أني مشتاقة لهم كثيراً

_ بالتأكيد هم يملكون هاتف ، أمي قالت بأن أهل الجنة يجدون كل الأشياء ، كل ما يتمنوه ، بدون أن يطلبوه ، ولا تنسي بأن أبي كان يحمل هاتفه في جيبه عندما قتلوه ، إذا فهو معه في الجنة الآن ، لا بد أن يتصل بنا قريباً ، هو حنون جداً ، سيشتاق لنا ..

صمت آخر لا يقطعه إلا الأمواج القاسية تضرب بالصخر المترامي هنا وهناك، وطائر النورس كسير الجناح  يستمع إلى سذاجة الطفلين...

تمتمت مُقاطعةً الصمت : هنا وفي مثل هذه الأوقات ، قُتلت عائلة هدى غالية .... أخذتهم النيران جميعاً إلا هي ...
ضغط بأصابعه على يد أخته كطفل يطلب الحنان :مسكينة هدى ، لم تذهب معهم للجنة ...

قالت : قد نموت مثل محمد الدرة ، أو مثل إيمان حجو ، أو هدى غالية ، وقد نموت كشهداء الحصار المرضى... لكنني لا أريد أن نموت كذلك ، سنموت بطريقة نصنعها نحن

_ كأنكِ تعيدين ما كان يقوله أبي ، نعم يجب أن نموت بشكل آخر ، سأربط الكوفية على جبيني ، وأحمل البندقية حبيبة أبي ،      وأمضي بها إلى فلسطين ، وأقتل من قتل أبي وأمي ...

* نعم سنفعل ذلك ، سنقتلهم ، نحن وجميع الأطفال الذين بلا آباء الآن ....

ازدادت يديهما تشابكاً ، وأمال رأسه على كتف أخته  التي تكبره ، وأرخيا نظريهما ليجولا في العالم الذي لم يريا منه بعد إلا الكفن والدم....



تعليق.

الحوار يدور بين طفلين ، الفتاة تكبر الفتى  بعامين . طفلان رماهما القدر  بعد ان انتزع أبويهما منهما  ، ليسبحا في بحر من الأفكار التي تنم عن تفكيريهما المتواضع ... فهما سيصعدان للجنة بالطائرة ، وينتظران مكالمة من الجنة ، الأمر لا يستدعي الضحك ، فربما يتطلب البكاء على الأطفال الذين ارتسمت في أذهانهم فكرة  {الموت} ، الموت الذي يطال كل الصغار في مدينتهم ..
كثرة الدموع التي يرونها جعلتهم يعتقدون أنها كونت البحر ، وكثرة الشهداء من الأطفال كوّن لديهم أنهم يجب أن يموتوا صغاراً.
الحوار يحمل من السذاجة ما يكفي ليعبر عن مدى براءتهم وطفولتهم المُنتهكة .....
نهاية الحوار تحمل  الرفض للموت دون الأخذ بالثأر لدماء آبائهم ..

هناك 7 تعليقات:

طير الغربة يقول...

روووووووووعة.. ناهيك عن الموضوع الرائع وقصته المؤثره ..
اسلوب سردي قصصي جميل جداااا يا بلسم
وبإذن الله سيكون لك مستقبل فني أدبي كبير ان شاء الله.. يا "طبيبة" المستقبل..
^_^ ..
سلامي لك ولغزتي الحبيبة الصامدة.. ولكل أهلي وأحبائي..
سلام الله عليكم..

سجود يقول...

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

أعطيتني أكثر مما أستحقه ، أرجو ان أكون كذلك ...

وشكرا على هالبشرى "مستقبل أدبي كبير " يا حضرة الشاعر ^_^

good luck

العلم نور يقول...

جزاك الله خير الجزاء وجعله الله في ميزان حسناتك.. آمين.


اصحى يا نايم ووحد الدايم ..

(حملة الجسد الواحد)

أرجوا من المدونين الموقرين أن يضعوا شعار الحملة واسمها في الشريط الجانبي لمدوناتهم كدلالة على وحدة صف أمة محمد

لمزيد من المعلومات

http://dndanh111.blogspot.com

جعله الله في ميزان حسناتكم .. آمين

حياتى نغم يقول...

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سلمت أناملك وعقلك وسلمت أنامل الصغار وعقلهم الكبير .

ودام قلمك نبضك .

حبيبتى فعلا نحتاج لثورة ثورة على الجهل ثورة على المعصية ثورة تمضى بنا نحو الإيمان طريق النصر اللهم اجعلنا من المؤمنين آمين .

سجود يقول...

حياتي نغم

ربنا يسلمك يا أختي الكبيرة ويخليكي يارب

نورتيني والله

ربنا يخلصكم من الظلم الحاثم فوق صدوركم

تحياااتي

لواء الاسلام يقول...

اسلوب قصصي رائع وممتع بارك الله فيك وربنا يتقبل.
تحياتي لاهل غزة

سجود يقول...

أهلا لواء الاسلام
وتحياتنا لإلكم