
انطلقت مآذن المدينة الأسيرة تعزف أنشودة الخلود :"الله أكبر ، الله أكبر " ،بدّد النداء بعضاً من السحابة السوداء التي
بدأت الشمس تنشر أشعتها على البيوت المتلاصقة ،بينما كان أبو محمد – صاحب الأسرة المكونة من ثلاثة عشر طفلا ً-يجلس غارقاً في بحار من التفكير ،"يا ترى كيف أجمع لأطفالي قوت يومهم الجديد ؟؟ يا الهي كنزة أحمد لم تعد كفيلة بحماية جسده النحيل من سيوف البرد التي تمزق الأجساد ،وفاطمة مريضة لم أحصل لها بعد على العلاج ".
ألقى نظرة على شبكته الملقاة في ركن الغرفة فتذكر منظر البارجات التي تغطي مياه البحر الزرقاء،ازداد كآبةً لسبب أنه مضطر لأن يقف في طابور مساعدات "الأنروا " .
اتّجه بخطواتٍ مثّاقلة إلى مكز تقديم المساعدات وحيث انتهى الطابور وقف ينظر إلى بدايته فلم يستطع أن يصل لتلك البداية ، وبكثير من اليأس والاحباط وتحت جو صنعته سماءُُُُ ُُُ غاضبة وقف ينتظر دوره الذي على ما يبدو أنه لن يأتي ،مرّّّّت ساعة ...ساعتان ..ثلاث ولم يحن دوره بعد ، وأثناء الانتظار كان يمر بين الفينة والاخرى رجلُُُ ُُُ قصير القامة ،شعره أصفر طويل غطت نظارته السوداء ما يقارب ثلث وجهه - موظف من موظّّّّفي الأنروا -،كان يمر عليهم يلفهم بنظرات استحقار واذلال ، يسأل هذا عن أوراقه وذاك عن مكان سكنه وآخر عن اسمه ،مُُُُطلقاًًًً ضحكته السخيفة بعد كل اجابة يسمعها أيّّّّّاًًًً كانت .
جلس أبو محمد الذي أنهك جسده المريض طول الانتظار والوقوف لساعات طويلة ،فإذ بصوت ذلك الموظّّّف :"انهض أيها اللاجىء أتريد أن تفسد النظام وتجلس في منتصف الطابور ..هه أم أنك تريد أن تتسول دقيق أطفالك وأنت مستريح ؟؟؟"
كان وقع كلمات هذا الحقير أصعب من وقع ألف سيف على ابي محمد ، نعم بدت سيوفاً تقطع كرامتع إرباً إرباً ، نهض تاركاً الطابور مُُُوَََجّّّهاً للموظف نظرات غاضبة قائلاً:" لا تسقني كأس الحياة بذلة بل فاسقني بالعز كأس الحنظل "
عاد إلى بيته ، طرق الباب بعنف متردد فأقبل طفله متلهّفاً لما أحضره والده معه ولكنه بدا خائباً عندما وجد يديّ والديه فارغتين ، توجّّّه هو إلى شبكة الصيد وبدى عازماَ على التوجه إلى البحر ، لحقت به زوجته تناشده بألا يفعل فما بقي على مغيب الشمس هو أقل من ساعة واحدة ؛وبذلك يكون الخطر أكبر ،حاولت منعه ولكن عبثاً ...!!!
سحب شبكته متجهاً إلى الشاطىء ، كانت الشمس على مغيب وبدأت كشّّّّّافات البارجات بالاستعداد لتنشر أضواءها على مياه البحر وما بعد البحر من بيوت المدينة الأسيرة ، بالرغم من ذلك بدا الصياد أقل اكتراثاً فمشى بشبكته إلى نقطى قريبة من الشاطىء وألقى شبكته في كل اتجاه عسى أن تعلق بها بعض سمكاتٍٍٍٍ صغيرة أبقتها المواد السامة على قيد الحياة .
وبعد جهدٍ كبير استطاع الصّّّّياد القنوع أن يحصل على ما يكفيه ليطعم أطفاله ، وبحذرٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍٍ شديد حمل شبكته على كتفه مُُُُُبتعداً عن مدافع الزوارق التي انتصبت في عرض البحر ، وبدا سعيداً بما حصل عليه دون أدنى ذلٍ أو اهانة من أي جهة .
وبينما كان يمشي مبتعداً عن الشاطىء........ فإذ برصاصة غادرة تخترق جسده وتبعتها ثانية ، سقطت الشبكة من يده و بعد لحظات تبعها جسده الذي تهاوى أرضاً فسال دمه الأحمر القاني على رمال البحر العسجدية راسماً مع قشور السمك الفضيّّّّّة أجمل لوحة ممكن ان تغيب عليها الشمس .....
وبصوت واحد رددّ الكون حزيناً
يا بحر وين البحار تيقولك هيلا ويلف السبع بحار بيوم وليلة
يا بحر وين البحار تيقولك هيلا ويلف السبع بحار بيوم وليلة
اضاءة .
* القصة تسلط الضوء على معاناة الفلسطيني لا سيما اللاجىء ومعاناته مع الأنروا ، ومن الجدير ذكره أن كل ما تقدمه الأنروا للاجىء الفلسطيني لا يتتعدى ان يكون أبسط حقوقه التي تردهه له مقابل ضلوعها في بيع أرضه وتهجيره والصاق اسم اللاجىء به ..
* كما انها توضح مدى خطورة المنفذ الذي بات وحيداً لسكان القطاع