السبت، أكتوبر 29، 2011

هَلْ تَغْفِرُ لِي ... أوْ أَغْفِر ..!



قبل ثلاثين عاماً ... بعدما كبّلوني بسلاسل حديدية ثقيلة وربطوا على عينيّ العصبة ، وبعد محاكمة على طرازهم حُكم عليّ فيها بأربع وعشرين مؤبداً ، ساقوني إلى غرفة مظلمة ، عارية ، موحشة ...أنا ابن الاثنين وعشرين ربيعا ،أنا الذي لم أرَ في دنياي إلا الحنان عليّ ، أنا أعيش في هذه الغرفة القاسية أربعة عشر مؤبداً ، يا لسفاهة اليهود ، إن كان المؤبد سبعة وعشرين عاماً ، فيكفي مؤبدين أو ثلاث لأكون نزيل سجونهم طيلة عمري ، وعندها سأطلب منهم أن يحفروا لي قبري في نفس الزنزانة ، إنهم لغيظهم يزيدون في عدد المؤبدات ليضغطوا عليّ ويحطموا نفسيتي ، ولكنني كنت يومها بارد الأعصاب بشكل استغربته من نفسي ، قلت للسجان : ماذا لو جعلوها عشرين مؤبدا مثلاً! ثمّ إن رقم عشرين أفضل من أربعة عشر ، فازداد السجان غيظاً فوق غيظه ..

أدخلوني أنا صاحب الأظافر الناعمة إلى غرفة قذرة ، وكثيرا ما ضربت أمي بي الأمثال في النظافة ،حصير متعفنة .. يكفي ، بذخٌ أن أفكر في أكثر من ذلك ..
مرّت الأيام ... كل يوم أحاول التأقلم على هذا الصديق القذر الجميل ، وعندما أشعر بالاختناق أذهب بذاكرتي إلى ذلك المشهد : يوم قتلت منهم ما يربو عن ثلاثين لعيناً ، في حافلة الجنود المتجهة إلى "إيلات" ، فيتلاشى اختناقي عندما أستذكر صوت صراخهم ، لكني لست وحشاً كي أستلذ على صراخ بشر آخرين ، كل ما في الموضوع أنني رفضت أن أجلس كالرزايا وبيتي يُسرق وأختي تُغتصب في قعر بيتنا ، كان عليّ أن أنتقم -على الأقل - لأجل الله الذي حرقوا كتابه أمامي ، لقد كانوا قوماً بلا دين ..


قلّبت الثلاثين عاماً وأنا أنظر إلى شبابي الذي التهمته الجدران الأربعة ، لم أحاسبها يوما على ما فعلته ، بل زينتها ، رسمت على جدرانها بيتي الذي أحلم أن أعود له ، رسمت شجراً وعَلَمَاً له ألوان أربعة ، رسمت عيون أمي وجدائل أختي ، كفيّ أبي تقطف الزيتون ،،..، ورسمت بيتا آخر تبدو من نافذته امرأة بعينين عسليتين واسعتين ترقبني أعود كنت قد تركتها عروس في رحمها طفل لي ، وطفلاً يحبو وينطق أولى حروف اسمي وكتبت تحته "إنها عائلتي " ، وجدار أفردته لخارطة أرضٍ أعشقها وحددت عليه يافا والقدس و "إيلات" ،، الأولى حيث بيتي والثانية حلمي ، أما الثالثة ففيها مجدي ..


ورسمت مكاناً لي في الجنة ، واعتذرت للجنة إذ رسمتها على جدران قذرة ولكنها سامحتني فهي تقبل النظيف من الأفكار..


كنت أنظر إلى شعاع شمسٍ يتسلل خفية إلى الزنزانة كل صباح ، فأفكّر :هل ما زالت الشمس تشرق ، وإن كانت تفعل فهل لا زال قرصها كبير مدوّر أم أنها استحالت إلى خيوط ضعيفة تتسلل إلى غرف السجناء مثلي ؟ يا ترى هل إن رأتني ستتعرف ملامحي ؟ صحيحٌ أن جسدي صار نحيلاً ووجهي شاحباً وأصبحت أحمل من الأعوام ما ستتعجب هي إن عرفته ، ولكنني ما زلت أنا صديقها الذي كان يستيقظ قبل شروقها يستعد لترحيبها ،، فهل تذكره ؟!


سجني .. يعني أنني ازدت قُرباً من الله .. ومن فلسطين ، شعرت بقوة الله تحميني ، غمرني إيمان بما فعلت ، هوّن عليّ يقيني بعدل الله ظلم السجن وظلامه ، كنت دائما أناجيه ، وحده يستطيع أن يسمعني في ذلك المكان المعزول ، فأشعر بردّه عليّ بسكينة تغشاني .. كم تعلمت في تلك الغرفة الصغيرة أنّ الله كبير ..

اليوم أنظر إلى المرآة ، وألوم جدران السجن بصوت أمي : أنا أعطيتك ابني شاباً وسيماً أسود الشعر واسع العينين ، عريض الأكتاف ، طويل القامة ، انظري ماذا حلّ به ،، الشيب غزا شعره ولحيته التي أطلقها ، اضيقّت عيناه التي كانت راحتي ، انحنى ظهره ، شحب وجهه ،،،، إنه ليس ابني الشاب الذي زوجته من أجمل بنات يافا لقد غدا كهلا بأعوامه الخمسين ..

بعد ثلاثين عاماً ، اكون قضيت مؤبدا واحدا ،، وبقي ثلاثة عشر مؤبدا إلا ثلاثة أعوام .. ليس مهمّا ، وهبتُ هذا العمر لله كما وهبت النفس قبله ، أظن انهم سيحتفظون بجثتي في تابوت في قبر أسفل أرضية زنزانتي حتى أقضي مؤبداتهم كلها ، ثم يعيدوا بالتابوت لأهلي ليدفنوه في أرضهم .. ولكن قبل الممات دعوني أنظر إلى عينيّ أمي التي كنت أنا بكرها ، دعوني أُقبّل يديها ووجنتيها ، دعوني ولو لمرة أن أبكي أنا الكهل في حضنها وأقول لها :" ماما .. لن أزعجك بعد اليوم " ...
دعوني انظر إلى عيني زوجتي ، وألتمس منهما السماح ، "تركتكِ فتاة رقيقة ، جميلة ، لم تكملي العامين عندي بعد ، وتركت طفلا في أحشائك ، كم هي كبيرة أمانتك !، وكم هي ثقيلة مهمتك التي ألقيتها بغيابي على عاتقك !،، سامحيني .. فقط سامحيني"..

اليوم وبعد ثلاثين عاماً يطرق باب زنزانتي ذلك السجان القصير ، صاحب الوجه الأنمش ، يبدو أنه من يهود أوروبا ، ذاك الرجل الذي لم يكن يأتيني إلا بأسوأ الأخبار ، يطرق الآن في هذا الصباح المبكر زنزانتي ، أنتظر أن يفتح فمه الكبير كمغارة وينطق الأمر الذي ساقه إليّ ... قال بلغته العربية المكسرة :" اللعنة على مقاومتكم ،، اللعنة على من يدافعون عنكم " ،
نظرت في وجهه الأبيض الذي أحاله الغضب إلى الاحمرار ، وقلت مستهزئاً : وما الذي يذكرك بمن يدافعون عني في هذا الصباح الرائق ؟ ، أكمل بنفس الحدة :" بل اللعنة عليك أنت "
قلت بهدوء علمني إياه السجن :" هدّئ من روعك .. إياك أن تنفجر وتتطاير حممك في زنزانتي ، سيحكمونني ثلاث مؤبدات أخرى بتهمة تفجيرك " وعلا صوت ضحكي الساخر ..
قال : أنت وأمثالك كنتم سبب تأخير صفقة الإفراج عن جندينا المأخوذ ظلما لدى مقاومتكم اللعينة ، التي تأسر الأبرياء بلا وجه حق ، دولتنا العبرية ترفض خروجك وأمثالك الذين تلطخت أيديهم بالدماء البريئة ، لأنكم سبب الفساد والإرهاب في العالم ، بينما قياداتكم الإرهابية تصمم على خروجكم بصفتكم مجدها ، إنكم لإرهابيون حقاً .... " ثم اخذ نفسا عميقا بعد المهمة الصعبة التي نفذها أمامي ..، كنت وقتها أستمع إليه بابتسامة رُسمت على شفتي ، وبعدما انتهى قلت :" إذا يا حاييم .. هذا ليس كلام جديد أنا أعرفه ،، فما خطبك اليوم .. قل ما لديك ودعني لصلاتي ، وقت صلاة الضحى بدأ يمضي "
قال غير مُكترث لكلامي وقد ازداد حنقاً لهدوئي :"جئت اخبرك أننا أخيرا سنحصل على بطلنا المأسور لدى أصدقائك المجرمين ، فاوضنا كثيراً لنستعيده "


قلت مستغرباً:" وما ذنبي أنا لتعكر عليّ صباحي ،، ولمَ انت غَضِب !، (بطلكم) سيخرج لكم "


قال بنفس الغضب وقد خفت وقتها لأن ينفجر حقاً :" جئتك لأنك واحد من الألف أسير الذي سيخرجون في الصفقة "
قال كلماته الأخيرة ومضى طارقاَ ورائه باب الزنزانة ،، مضى وتركني ورائه كتلة متجمدة رغم قيظ الصيف ، تشنج جسدي كله وهوى ، فحملته ركبتيّ اللتان استندتا للأرض ..


جال بخاطري كل شيء . يافا ، إيلات وجنودها القتلى ، حضن أمي ، عيني زوجتي ، أبي الذي شاخ ، طفلي ، فلسطين ...
استعدت قواي، بدأت أستوعب الأمر ، وقفت صارخاً:" سأكون حراً ، سأكون حراً ، بلا قيود ، بلا سلاسل ، سأرى قرص الشمس المدور كل صباح ، أنا حر .."


عندما توقفت عن الصراخ وجدت وجهي يقابل تلك المرآة الصغيرة التي علقتها على جدار الزنزانة لأرى كيف تعبث الأيام بشكلي ، وإذ بي أرى رجلاً كهلاً غزى شعره الشيب ..






استغرقت طويلا وأنا انظر على الشيخ الهرم أمامي في المرآة ، وجال في خاطري "كيف يستقبلونني" ، نعم ..أهلي الذين منعوهم من زيارتي منذ أكثر من عقد ، كيف يستقبلون ابنهم الشاب ،أقصد الذي ودّعوه شاباَ ..
أقسى ما سألقاه ... عيني زوجتي ، سأقف خجِلاً أمام انتظارها ، ولا شيء حسب ما علمت أصعب من انتظار من لن يعود ، سأطلب منها أن تسامحني على شعرها الذي شاب مقدمته ، ووجهها الذي علته بعض التجاعيد ، وسأتوسل لها أن تغفر لي سهرها وما خلّفه من سمارٍ تحت عينيها .. سأبكي بين يديها ، سأجهش ..
أما هذا فلا أظنه أقل قسوة من ذاك .. سأرى ولدي الذي غدا أباً لطفلين .. سحقا! أصبح أباً دون أن يشعر يوماً بطعم الأبوة ، بحنان الأبوة ، بقسوة الأبوة .. لن ادري هل تحملني قدماي وقت أن أراه ...
هل يسأل أمه في ساحة المنتظرين :"أي من هؤلاء القادمين نحونا هو أبي ؟" ، وكم هي الحسرة التي ستاكل قلبي وقتها لو سأل ..
سأراه يتفرّس في وجوه المحررين ، يسأل نفسه .. أيُّهم أبي ، أيُّ مرارةٍ تلك التي يغرق في بحارها قلبي ..!
كيف أحتضنه وأقول له (ولدي) .. هل يصفح لي هو الآخر ..
أم سيسألني بقسوة والدمعة تحبسها عيناه .." هل تعرفني ..!!" ،وهل تقنعه إجابتي " رسمتك بجانبي .. كبرت معي في زنزانتي من الميلاد حتى الزواج" ..!
لا بأس..ليكن ما يكون
لأحزم أمتعتي ، وأترك جدران زنزانتي لسجين آخر ، هي قدره ..

الأقدار .. إنها الأقدار ـــــــ وكفى .