أشهد أن قلمي لم يكن يوماً عقيماً ، ولن يعقم – إلا أن يشاء ربي - ولكنّي لا أدري –لحظّي أو لتعسي – أسقطت عليه الإنسانية حين انتزعها عن جلودهم كثير ممن خلقهم الله بشراً ، فباتوا يسيرون عراة ، فبعض القماش لا يستر عورة من خلع لباس التقوى.....، وليست الإنسانية ببعيد عن ما أمر به الذكر الحكيم أو نهى عنه ، بل لعلّهما يفضيان لمعنىً واحد .. فيتوقف على أعتاب صفحة بيضاء ، خَجِلاً من ذلك الفراغ الذي اُعدّ له ، فيلقي كل أعذاره مُتكئاً على الحاشية ، يُوَسوَس له باتّباع طريق كثيرٍ من الأقلام التي أُضلّت فَغَوَت ، وانتفشت فَعَلَت ، ولكنه انتفاش الورم ...، أو يقولون :" لعمرك إنك هرمت والاستقالة حقٌّ لك " ، يستعيذ قلمي من شر كل وسواس خناس ، ويمسح على رأسه الذي اشتعل شيباَ مُتَمْتِمَاً ببعض الكلمات ، ربّما كان يرقي نفسه ...
صمت قلمي إما مدهوشاً أو مُحتَجّاً أو حزيناً ، برغم قربي الشديد منه إلا أنه آثر بأن يحتفظ بالسبب لنفسه ..
صمت قلمي ولكن الضمير فيه أبداً لم يمت ، فكل الصور التي تَرتسم أمام عينيه تستنطقه ، كل الأصوات التي تصل إلى أذنيه تستنهضه ،
يا إلــــهي ...! ، جُلُّ الذين ابتلاهم الله – عز وجل - بألّا ينطقوا ، رحمهم بأن جعلهم لا يسمعون ، فأيّ مصابٍ جَلَل أصبت به يا قلمي ..
إنّه – بشموخه – يترجل في هذه التدوينة عن مقعده في الحاشية ويرمي عكازه جانباً ، يربط العصبة على رأسه نازلاً لأسطر الصفحة المتراصة المنتظرة نطقه ، مستحضراً نيّة الجهاد ، بل ومقسماً على أن يقول الحق ، ولا شيء سوى الحق ، مُرتدياً إنسانيته ؛ كي لا يكون جائراً.
سيحدثكم قلمي رافعاَ رأسَه بأناس ٍ لم يسمع عنهم إلا خبراً فاحترمهم ونطق لأجلهم ، بل لأجل الحق .
يُخَيّل إليه ذاك المشهد ، كانوا يومها يلبسون زيهم العسكري ، شامخي الرؤوس ، واضعي أيديهم على كتابٍ أصبح في زمننا للتبريكات والقسم ، يقسمون الولاء لله وللوطن وللشعب ....، كثيرون غيرهم كانوا معهم ،أقسموا نفس كلمات القسم ، ولكن فيما بعد افترقت بقلوبهم السبل رغم اجتماع أجسادهم على ظهر دبابة واحدة ..!
ويَمُرّ أمام عينيه شريطٌ من صورٍ لحياتهم ،هو لم يشهدها بل رسمها في مخيلته ، ويمُرّ إلى أنا يصطدم قطار صورهم بالصورة الأخيرة ....
سيقف قلمي في منتصف الصفحة على السطر الأوسط ، ليشاهد .. طُلب منهم أن يمشوا بين الناس عُراةً ، طُلب منهم أن يخلعوا لباس التقوى أو الإنسانية - واتفقنا أنهما يفضيان لمعنى واحد - ، طُلب منهم أن يخونوا القسم ، الدين ،الوطن ،الشعب ...، " قف أيها الجندي بلباسك العسكري واحمل علم قومك بأيّ لونٍ تلوّن ، وامتشق بندقيتك و – كَرَجُل - صَوّبها نحو أمك وأبيك ، نحو صاحبتك وبنيك ، وعشيرتك التي تؤويك ، ومن في الأرض جميعا إن كانوا لسيدك مخالفين ، بل صَوّبها نحو ضميرك واقضِ على أيّ نبضٍ حيٍّ فيه ، اجعله جماداً بل ادنى ..
ضع أصبعك – الذي يشهد لله بالوحدانية – على الزناد ، واضغط على قلبك بنعليك المُتّسِخَيْن وأَخْمِد كلّ الزفرات والشهقات ، اضغط على الزناد وانظر في عينيّ ضحيتك ، ممنوع يا هذا أن تُطأطأ رأسك أو تزوغ ببصرك ،لا تفعل الذنب على استحياء ، بل كُن وقحاً بقدر ما تستطيع ..
قلمي ، رغم الألم ينتصب ويمشي مُفتخراً إلى الأسطر المتبقية ليكتب الآتي .."إنهم يُلقون بنادقهم ، قال : أفعلتم قبل أن آذن لكم ؟! ، أعطوه ظهرهم ومشوا ، ناداهم : لأحرقنكم ولأصعقنكم كما فعلت بالذين عصَوا من قبلكم ، التفتوا إليه : افعل ما بدا لك إن ربنا وعدنا وعد الحق وأنت وعدتنا وعد الباطل ، يصرخ: إنها لشياطينكم التي أوحت لكم بالثورة ، إن عُدّتُم واستغفرتم فسأغفر لكم ، قالوا : بل ستكون من المقتولين ... وبغضبٍ يتقَطّر من جبينه أصدر أمره لزبانيته أن اربطوهم و بالرصاص ارموهم ، لا تدفنوهم بل علّقوهم هناك ليكونوا عِبرةً لكلّ من فكّر بأن يرًدّ أمري هنا ....
إهداء إلى أرواح الجنود السوريين الذين أعدمهم بشار لأنهم رفضوا اطلاق النار على المتظاهرين